بعد أن وحد "عبد الرحمن الغافقي" الناس وظن أن القوة قد اكتملت ، أخذ هؤلاء الناس وانطلق بهم ناحية فرنسا ليستكمل الفتوح من جديد ، ودخل مناطق لم يدخلها السابقون ، فقد فتح أقصى غرب فرنسا ، وأخذ يفتح المدينة تلو المدينة ، وفتح مدينة (آرل) ، ثم مدينة (بوردو) ، والتي تسمى الآن بهذا الاسم ، ثم مدينة (طلوشة) ، ثم مدينة (تور) ، ثم وصل إلى (بواتييه) غرب باريس ، والتي تبعد عنها حوالي مائة كيلو متر ، وتبعد من قرطبة حوالي (1000) كيلو متر ، فقد توغل جداً في بلاد فرنسا في إتجاه الشمال الغربي .
وهناك في مدينة (بواتييه) عسكر عند منطقة تسمى (البلاط) ، والبلاط في اللغة الأندلسية تعني (القصر) ، فإن هذه المنطقة كان فيها قصر قديم مهجور ، وبدأ ينظم جيشه ليلاقي جيش النصارى ، وكانت حملة "عبد الرحمن الغافقي" أكبر حملة تدخل بلاد فرنسا ، فقد وصلت إلى خمسين ألف مقاتل ، ما وصل إليها المسلمين قبل ذلك الوقت.
والمشكلة الخطيرة في جيش "عبد الرحمن الغافقي" هي تعلق قلوبهم بالغنائم الكثيرة التي غنموها ، وإفتتانهم بتلك الأموال الضخمة التي حصلوها من بلاد فرنسا ، واشتهرت بين الناس فكرة العودة إلى أرض الأندلس لوضع هذه الغنائم هناك حتى لا يأخذها الفرنسيون ..!!
لكن "عبد الرحمن الغافقي" رحمه الله جمع الناس وقال لهم: « ما جئنا لأجل هذه الغنائم ، ما جئنا إلا لتعليم هؤلاء الناس هذا الدين ، ولتعبيد العباد لرب العباد سبحانه وتعالى» ، وأخذ يحفز الجيش ويحضهم على الجهاد في سبيل الله ، وعلى الموت في سبيله سبحانه وتعالى ، وأخذ الجيش وانطلق إلى (بواتييه) رغماً عن أنف الجنود .
وعندما وصل إلى منطقة (بواتييه) ظهرت أمور جديدة في الجيش وهي العصبيات التي كانت في بلاد الأندلس بين العرب والبربر ، فقد تجددت من جديد ، بسبب الغنائم الكثيرة التي لم توزع.
فبدأ الناس يختلفون ، وكل واحد ينظر إلى ما في يد أخيه ، وكل واحد يريد الشيء الأكثر ، وكل واحد يرى نفسه أو نسبه أفضل من الآخر ..
فالعربي يقول: أنا عربي وأنت بربري والعربي أفضل .
والبربر قالوا: نحن الذين فتحنا البلاد .
ونسي الناس أن الفاتحين السابقين ما فرقوا أبداً عند الفتح وعند الدعوة إلى الله سبحانه في تلك البلاد بين عربي وبربري ، وبين هؤلاء الفاتحين وبين الأندلسيين الذين دخلوا في الإسلام بعد ذلك ، فلم يفرقوا إلا بحساب التقوى.
فبدأت هذه المشاكل تظهر في الجيش ، فاجتمعت العصيبة ، واجتمع حب الغنائم والخوف عليها ، كما اجتمع إلى جوار ذلك الاعتداد بالعدد الضخم ؛ الذي لم يسبق في تاريخ الأندلس ، فأخذتهم العزة بهذا العدد ، وظنوا أنهم لن يغلبوا.
ومن جديد تعود موقعة (حنين) الجديدة ، قال تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25].
وللأسف الشديد مع وجود هذا القائد المجاهد التقي الورع ، إلا أن عوامل الهزيمة الكثيرة كانت موجودة في داخل جيش المسلمين ، من حب الغنائم ، والعصيبة القبلية العنصرية ، والاعتداد بالأرقام والأعداد والعدة والعتاد ، والمسلمين ما انتصروا أبداً بعدتهم ولا عتادهم ، وإنما بطاعتهم لله ومعصية عدوهم لله سبحانه وتعالى.
أما جيش النصارى فقد أتى من باريس بقيادة "شارل مارتل" بأربعمائة ألف مقاتل من النصارى ، أي: ثمانية أضعاف الجيش المسلم ، والمسلمين أبداً ما كانت تهزهم هذه الأرقام ، لكن جيش المسلمين فيه عوامل الضعف.
والتقى الجيشان في موقعة من أشرس المواقع الإسلامية على الإطلاق في منطقة (بواتييه) ؛ دارت الموقعة بينهما عشرة أيام كاملة ، وكانت في رمضان سنة 114 هجرية ، وكانت في بداية الموقعة الغلبة للمسلمين على قلة عددهم ، لكن النصارى في آخر الموقعة فطنوا إلى كمية الغنائم الضخمة المحملة خلف الجيش الإسلامي ، فالتفوا حول الجيش وهاجموا الغنائم ، وبدءوا يسلبون غنائم المسلمين ، فارتبك المسلمين وأسرعوا ليحموا الغنائم الكثيرة ؛ لأن حب الغنائم دخل في قلوبهم.
فحدث إرتباك شديد في صف المسلمين ، وبدأت تحدث هزة أدت إلى هزيمة للجيش الإسلامي في هذه الموقعة العجيبة موقعة (بواتييه) أو موقعة (بلاط الشهداء) ، وسميت بذلك لكثرة شهداء المسلمين في هذه الموقعة بالقرب من البلاط وهو القصر ، ولم يرد في الروايات الإسلامية حصر دقيق لشهداء المسلمين في موقعة بلاط الشهداء ، لكن الروايات الأوروبية تبالغ كثيراً حتى تقول: (أنه قتل من المسلمين في موقعة بلاط الشهداء ثلاثمائة وخمسة وسبعون ألف مسلم) ، وهذا مبالغ فيه جداً ؛ لأن جيش المسلمين كان خمسين ألفاً.
يقول النصارى في رواياتهم :
(أنه لو هزم الفرنسيون في موقعة (بواتيية) لفتحت أوروبا جميعاً ، ولدرس القرآن في جامعات).
هى الأيام كما شاهدتها دولٌ .. مَن سَرَّهُ زمنٌ ساءَتهُ أزمانُ وهذه الدار لا تُبقى على أحد .. ولا يدوم على حالٍ لها شانُ