هناك على مقربة من أهرامات مصر الشامخة بَنتَ القبائل اليمنية مدينة الجيزة في القرن السابع الميلادي عندما كانوا في طليعة جيش الفتح الاسلامي بقيادة "عمرو بن العاص" رضي الله عنه ، إجتازوا النيل .. فسميت (الجيزة) ، هذه المدينة في قلب العاصمة المصرية تمثل سفراً خالداً يحكي فصلاً من فصول الريادة اليمانية في تحرير أرض الكنانة من الإحتلال الروماني ورفع رآية الإسلام في هذا البلد الغالي .
تستوقفك في مدينة الجيزة العريق اسماء بعض الشوارع وتشعر بحنين عميق وانت تقرأ: (شارع همدان و شارع أرحب و شارع مراد) ، وغير ذلك من الأسماء التي خلدت أنساب القبائل اليمنية التي شاركت في فتح مصر .. ولاندري هل تم تغييرها أم مازالت كما هي ؟!!.
لعبت القبائل اليمنية دوراً بارزاً في مجال الفتح الإسلامي لمصر ، فكانت عماد جيش "عمرو بن العاص" ، كما أنها أسهمت في بناء مدينة الفسطاط العريقة.
بعد فتح "عمرو بن العاص" بيت المقدس أدرك وقتها ضرورة فتح مصر ، فأقترح على الخليفة "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه أن يرسله إلى مصر.
كان جيش "عمرو بن العاص" المكون من أربعة الآف مقاتل الذي فتح مصر وجزءا من شمال أفريقيا كانوا من اليمنيين من قبائل (كهلان وحمير ومذحج وحضرموت وبلي وهمدان ومراد ومهرة وغافق وخولان وذي رعين وذي الكلاع) ، خاصة قبيلة (غاسق) ، وغاسق هي بطن من بطون قلبية عك ، وعك من قبيلة الأزد اليمنية.
كان دخول الجيش من مدينة (العريش) وهي أول مدن مصر من جهة الشرق ، وبرز الدور الأكبر لليمنيين في فتح الإسكندرية ومطاردة فلول الرومان المتبقية ، وبرز في معارك الإسكندرية (عمرو بن شريك بن سمي المرادي ، وعوف بن مالك الأزدي) ، وكذا جند المهرة الذين وصفهم "عمرو بن العاص" بقوله: «أما مهرة فقوم يقتلون ولا يُقتلون ، وأما غافق فقوم يقتلون ، وأما بلي فأكثرها رجلا صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضلها فارسا».
وكانت الفرقة المهرية (نسبة إلى مدينة المهرة) من أكثر الفرق عدداً وعدة ، حيث كانت ألفين وتسعمائة مجاهد ، بقيادة "تميم بن فرع المهري القضاعي الحميري" أول من أقتحم سور الاسكندرية الحصين بفرقته.
دخلت القبائل اليمنية فاتحة كأغلبية عسكرية في جيش "عمرو بن العاص" ، ولم يقتصر دورها على مجرد الفتح وتأمين المنطقة الإسلامية الجديدة فحسب ؛ بل لعبت دوراً إيجابياً لاحقاً ؛ حيث تعاملوا برفق ولين وحسن خلق مع أهل تلك البلاد ، وامتزجوا بهم ، وتعاملوا معهم في مختلف مجالات الحياة ، كونهم أهل تجربة وخبرات سابقة في مختلف المجالات ، خاصة التجارة والزراعة ؛ فتوزعوا في مختلف المناطق وبنوا المساكن والدور ، وكانوا ضمانة أساسية للدولة الجديدة من هجمات القبائل المحيطة التي كانت تهددها من ناحية الغرب من قبل.
بعد اكمال فتح مصر و ذلك خلال ثلاثة أعوام وصارت مصر تستظل بظل الاسلام بعد أن كانت ضمن أملاك الدولة البيزنطية ، كان لابد من التفكير في تنظيم الحياة في ظل الوضع الجديد في مصر إثر تحولها من ولاية بيزنطية الى ولاية اسلامية ، وكان اول المطالب في هذا الصدد هو إيجاد عاصمة جديدة لمصر الاسلامية بدلاً عن الاسكندرية التي كانت عاصمة مصر في العهد البيزنطي.
حيث أن "عمرو بن العاص" لما فتح الإسكندرية ورأى بيوتها وبناءها المتفرد ، أراد أن يسكن بها ، فكتب إلى الخليفة "عمر بن الخطاب" يستأذنه في ذلك ، ورد عليه الخليفة "عمر" : «هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟» ،
قال: «نعم يا أمير المؤمنين».
فكتب له "عمر بن الخطاب" : «أني لا أحب أن أنزل منزلًا يحول الماء بيني وبين المسلمين سواء شتاء أو صيف».
كان الرسول بينهم أيضاً من اليمن من قبيلة كنده اليمنية ، واسمه "معاوية بن حديج الكندي" .
مِنْ ثَمَّ قصد "عمرو بن العاص" الفسطاط شمال حصن (بابليون) ، وقام بتأسيس المدينة لتكون مركز البلاد وإدارة الإمارة الإسلامية في مصر.
كان السؤال :
كيف تبنى مدينة جديدة بفِكر هؤلاء العرب البدو وبتخطيطهم ، وهم ليسوا من أصحاب المدن؟! ، إذ كانت الحجاز ومكة والمدينة عبارة عن قرى صغيرة مقارنة بمصر التي تزخر بالمدن ذات المبانى الضخمة ، فكيف يبنون لها عاصمة تكافىء حجمها واقتصادها ونظام الحياة فيها؟! ، فمن يبني هذه المدنية من هؤلاء العرب؟! ، ومن منهم يعيش حياة المدن؟!
إنهم أهل اليمن .. لأنهم أهل حضارة منذ قديم الزمان ، وصنعاء من أقدم مدن الجزيرة العربية ، وغير صنعاء مملكة سبأ وحمير وقتبان ومعين قبلها ، كل هذا التاريخ تجَّمع في فِكر اولئك اليمانيين الذين اشتركوا في فتح مصر ، فكان بناء الفسطاط بناءً عربياً يمنياً خالصاً من طراز مدينة صنعاء اليمنية ، في هذا الموقع الى جانب جبل المقطم من الشرق ونهر النيل من الغرب ، كان عبئاً القي على أكتاف اليمانيين ، فكان بناء يمني خالص ، فهم معماريين مهرة ، فعرب الجنوب من أهل اليمن كانوا أهل حضارة وقد اشتهروا بفنهم الراقي في البناء والعمارة قبل ظهور الإسلام بقرون طويلة ؛ حيث وصف الرحالة الغربيون آثار بلاد اليمن قبل الإسلام ومعابدها وما نُحتت بهم من نقوش أثرية وكتابات برهنت على تفوقهم في الفنون والعمارة.
هكذا قرر علماء الآثار ورأو أن هذا يثبت أن الذين بنوا الفسطاط هم اليمنيون ، قام به رجال الفتح من أهل اليمن.
لذلك أختار "عمرو بن العاص" أربعة من شيوخ اليمن يمثلون القبائل اليمنية لتنظيم التخطيط ، وهم : (معاوية بن حديج النجيبي - شريك بن سمي الغطيفي - عمرو بن محزم الخولاني - جبريل بن ناشرة المعافري).
تولى الأربعة مسألة التخطيط والتوزيع وقام على نظام الخطط (كما تقول تخطيط الشوارع والحارات) ، ويشترط في بناء المدينة الإسلامية أن يكون المسجد مركزها ، ثم تبني البيوت حوله ، فالمسجد أول ما بني من الفسطاط على شاطىء النيل ، فتوضأ الناس من مياه النيل وصعدوا الى المسجد لتأدية الصلاة ، ووزعت (الخطط) على القبائل بحيث أن كل واحد من أهل الفسطاط عندما يسمع الأذان للصلاة يخرج من بيته فيسير مباشرة الى المسجد لايعترضه معترض ولا يقف في طريقه حائل ، والى جوار المسجد بنيت دار الإمارة.
القبائل اليمنية أستقرت بعد الفتح الذي أستمر ثلاث سنوات ، وهذا لا يعني ان هؤلاء المجاهدين الفاتحين أقاموا في بيوتهم واستراحوا لأن مهمة الجهاد لم تتوقف وظلوا في جهاد مستمر ، ولكن الفسطاط كانت قاعدة ينطلق منها المسلمون للفتح في شمال افريقيا والنوبة والبحر واشيليا.
المراجع :
- يمانيون حول الرسول 473/1.
- فتوح البلدان - البلاذري.
- الإكليل - الهمداني 230/2.
- فتوح مصر والمغرب - ابن عبد الحكم، تحقيق: عبد المنعم عامر، لجنة البيان العربي، القاهرة، 1961م،112.
- معجم البلدان - ياقوت الحموي 67/4.
- نقلًا عن أستاذ مجاهد الجندي - أستاذ الحضارة والتاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر ، في بحث نُشره له في مجلة التواصل العلمية.
- نقلاً عن بحث للدكتور محمد جبر أبو سعدة - استاذ التاريخ الاسلامي بجامعة الأزهر.