مع أن المسلمين بقيادة موسى بن نصير وطارق بن زياد وصلوا بفتوحاتهم في الاندلس (91هـ- 94هـ) إلى الركن الشمالي الغربي - وهو الإقليم المسمى (أشتوريش) في منطقة جليقية وشارفوا سواحل المحيط عند خليج بسكاي- فإنهم في الواقع لم يفرضوا سلطانهم تماما على هذه النواحي كلها؛ لوعورة مسالكها، وبرودة مناخها.
قصة كوفا دونجا أو صخرة بلاي :
وقد حدث أن بعض فلول الجيش القوطي المنهزم بزعامة قائد منهم يدعى بلاي "Pelayo" (ت 737م) استطاعت أن تعتصم بالجبال الشمالية في هذه المنطقة، وهي التي يسميها الإسبان بقمم أوروبا -في سلسلة جبال قنتبرية، وهي عبارة عن ثلاثة جبال شامخة، وبها مغارة تعرف بكهف كوفا دونجا، ويسميها العرب صخرة بلاي؛ لأنه اختبأ فيها هو وأصحابه، وكان عددهم لا يزيد عن الثلاثين -فيما بدا للفاتحين- فلما حاصرهم المسلمون وأعياهم أمرهم تركوهم وانصرفوا؛ استقلالا لعددهم، واستخفافا بشأنهم .
وفي هذه البؤرة الصغيرة كوفا دونجا أو صخرة بلاي نبتت نواة دولة إسبانيا النصرانية، ونبتت معها حركة المقاومة الإسبانية التي أخذت تنمو وتتسع حتى استولت على مدينة ليون، ثم سيطرت على جميع المنطقة الشمالية الغربية التي صارت تعرف بمملكة ليون. ولقد أحاطت هذه المملكة نفسها بسلسلة من القلاع والحصون لحماية نفسها من هجمات المسلمين.
بلاد الغال أو فرنسا :
حتى هذا التاريخ كانت تتكون بلاد الغال أو بلاد غالة -وهي فرنسا الآن- من عدة ولايات أو أقاليم وهي:
أ- ولاية سبتمانية:
وتشتمل على سبع مدن، وعاصمتها أربونة.
ب- ولاية أكيتانية:
تقع إلى الشمال الغربي من سبتمانية ، وعاصمتها برديل ، الواقعة على مصب نهر الجارون.
جـ- إقليم بروفانس:
يقع إلى الشمال الشرقي من سبتمانية ، وعاصمته مدينة أبنيون ، وتقع على وادي رودنة نهر الرون.
د- إقليم برغندية:
غربي نهر لارون ، وعاصمته مدينة لوذون.
هـ- المنطقة الواقعة شمال نهر اللوار حتى ألمانيا الحاضرة :
كانت خاضعة للدولة الميروفنجية.
حملة السمح بن مالك الخولاني (100 - 102هـ) :
وأول من غزا بلاد غالة من الولاة: السمح بن مالك الخولاني (100- 102هـ)، فقد بدأ بالاستيلاء على أربونة، ثم مضى في تقدمه حتى فتح طولوشة أو تولوز، واستولى على ولاية سبتمانية كلها، وأقام بها حكومة مسلمة في هذا الوقت المبكر.
وقد اتخذ من أربونة قاعدة للجهاد وراء جبال البرت، وتوغل في إقليم أكيتانية، غير أنه استُشهد في موقعة بالقرب من طولوشة انهزم فيها المسلمون، وقتل منهم عدد كبير، وذلك في يوم عرفة سنة 102هـ، فتولى القيادة عبد الرحمان الغافقي ، وأقروه واليا للأندلس حتى يأتي الوالي الجديد، وكانت هذه هي ولايته الأولى ولم يدم فيها أكثر من شهر.
حملة عنبسة بن سحيم الكلبي (107 - 110هـ) :
تولى عنبسة بن سحيم الكلبي سنة 103هـ، وكان كالسمح بن مالك صالحًا قويًّا، فقضى أربع سنوات من ولايته في تنظيم أمور الدولة وإصلاح الجيش وإعداده لمواصلة غزو بلاد الفرنجة، وقد عبر عنبسة بن سحيم بجيوشه جبال البرتات، وتابع حركة الفتوح لإقليم سبتمانية بمدنه السبع، وافتتح إقليم بروفانس، واتجه شرقا حتى بلغ نهر الرون ثم صعد مع النهر شمالا حتى بلغ مدينة ليون.
وتوغل عنبسة بن سحيم بعدها حتى كان على بعد سبعين كيلومترا من جنوبي باريس الحالية، وهي أبعد نقطة وصل إليها المسلمون شمالا، وتبعد نحو ثمانمائة كيلومتر شمال جبال البرتات، وفي طريق عودته تصدت له جموع كبيرة من الفرنجة، فاستشهد في إحدى المعارك سنة 107هـ، فقام بقيادة الجيش والعودة إلى أربونة عذرة بن عبد الله الفهري الذي حكم حتى ربيع الأول سنة 110هـ .
وبالرغم من أن وصول الجيوش الإسلامية إلى هذا الحد، وأن ذلك يعد دليلا قاطعا على ما امتازوا به من جرأة وقوة وإيمان, فإننا لا نستطيع القول -كما يرى الدكتور حسين مؤنس- بأن عنبسة فتح جنوبي غالة أو حوض الرون بالمعنى الحقيقي؛ لأنه في الواقع لم يفعل شيئا لتثبيت أقدام المسلمين فيما وصلوا إليه من البلاد، ولكنه على أي حال الفاتح المسلم الوحيد الذي وصل إلى هذا المدى في فتوحه، وكان لا بد من حملات ضخمة أكثر نظاما ليتم فتح هذه النواحي, كما أتمت حملات زهير بن قيس، وحسان بن النعمان, وموسى بن نصير عمل عقبة بن نافع في المغرب .
وقد أثارت حملة عنبسة مخاوف أوروبا كلها، حيث إنه اقتحمها اقتحاما، وأوغل بجيشه في داخل بلادها دون أن يستطيع أحد مقاومته، الأمر الذي جعل القائم بمملكة الفرنجة إذ ذاك -وهو شارك مارتل أو كارل، وتسميه مصادرنا العربية قارله يشعر بأنه لا بد من القيام بعمل حاسم إذا عاد المسلمون مرة أخرى، وبالفعل بدأ يستعد لهذا اللقاء، فأخذ يجمع القوات والسلاح والأزواد، وصالح أمراء برغندية، واتفق مع رجال سبتمانية، ومع دوق (حاكم) أكيتانية ليقوموا معا بعمل حاسم ضد المسلمين .
ولاية عبد الرحمن الغافقي الثانية (112هـ - 114هـ) :
وبعد أن توالى على الأندلس سبعة من الولاة بين سنتي (107-112هـ/ 725-730م) تفاقمت خلالها المشكلات وازدادت الاضطرابات وانتشر الخلل والخلاف بين الزعماء ورجال القبائل, عُيِّن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي واليا في صفر 112هـ، وهذه هي ولايته الثانية، وكان من أعظم قواد المسلمين في الأندلس عدلا وصلاحا وقدرة وكفاءة، وقد قضى ما يقرب من عام نظم خلاله شئون البلاد، ثم أعلن الجهاد ضد الفرنجة، وكوَّن جيشا هائلا يتراوح عدده ما بين سبعين ألفا ومائة ألف، جلهم من البربر.
وفي أوائل سنة 114هـ/ 732م سار عبد الرحمن الغافقي بجيوشه نحو الشمال، وعبر جبال ألبرت من طريق بنبلونة متجها إلى دوقية أكيتانية -أعظم ولايات غالة أو فرنسا في ذلك الوقت- فاكتسحها، ودخل عاصمتها برديل عنوة، ثم واصل زحفه حتى أشرف بجيشه على نهر اللوار واستولى على مدينتي بواتييه وتور، وما كاد يخرج الجيش الإسلامي من بواتييه في طريقه نحو باريس حتى فوجئ عبد الرحمن الغافقي بوصول جيش هائل من الفرنج والمرتزقة يقوده شارل مارتن أو قارله.
معركة بلاط الشهداء 114هـ/ 732م واستشهاد عبد الرحمن الغافقي. :
وعلى بعد عشرين كيلومترا شمال بواتييه في الطريق إلى تور جنوبي مجرى اللوار في موضع قريب من طريق روماني قديم هو المسمى بالبلاط, حدثت معركة بلاط الشهداء الكبرى بين الجيشين في أواخر شعبان 114هـ/ أكتوبر 732م.
وقد تكون معركة بلاط الشهداء وقعت بالقرب من موضع يطلق عليه اليوم اسم مواسيه لاباتاي Moussais la bataille، وتصمت المصادر العربية عن ذكر تفاصيل هذه الموقعة الفاصلة، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أنها كانت كارثة على جيش المسلمين، بحيث نفر قدامى المؤرخين من مجرد ذكرها، فاندرجت أخبارها في زوايا النسيان.
وقد استمرت معركة بلاط الشهداء ثمانية أيام، مما يدل على أنها كانت معركة حامية، والحق أن كلا من الجانبين بذل أقصى وسعه في القتال، وصبر المسلمون صبرا طويلا حتى تجمعت عليهم قوات نصرانية من كل ناحية، ولم يقتصر الأمر على الفرنجة، بل انضم إليهم كثيرون من أجناس أخرى من ألمان، وسُواف، وسكسون.
وآخر مراحل المعركة كان هجوما عنيفا على مؤخرة الجيش الإسلامي، فانتهبت الغنائم، وتزعزع نظام الجيش، وبينما يحاول الغافقي إعادة النظام إلى جيشه أصابه سهم فقتله، فعم الاضطراب بين المسلمين وكثر القتل فيهم، واشتد الفرنج عليهم، لكنهم صبروا حتى جن الليل وتحاجز الفريقان دون فصل، ثم انسحب المسلمون نحو مراكزهم في سبتمانيا تاركين غنائمهم، وأصبح الفرنجة فلم يجدوا لهم أثرا سوى الجرحى ومن لم يتمكنوا من مرافقة الجيش المنسحب، فأجهزوا عليهم، وانتهبوا ذخائر عظيمة، ولم يفكروا في تتبع المسلمين .
بلاط الشهداء .. أسباب الهزيمة ونتائجها :
ومهما قيل من أسباب لتعليل خسارة المسلمين في معركة بلاط الشهداء، من مثل ما قيل عن وجود خلاف في الجيش الإسلامي العرب والبربر، وابتعاد الجيش عن بلاد الإسلام بحيث أصبح على بعد 400 كم شمال جبال ألبرت التي تبعد عن قرطبة مسافة 900 كم مما جعل موالاته بالمؤن والإمداد أمرا عسيرا، بينما كانت خطوط إمداد الفرنجة سهلة ومتصلة، إضافة إلى أن المناخ لم يكن مناسبا لخوض الجنود والخيول العربية تلك المعركة القاسية، وأن المسلمين ساروا مثقلين بغنائم المعارك السابقة، مما دفع العدو إلى ضرب مؤخرة الجيش الإسلامي فارتبكت صفوفه، هذا إلى أن إمارات غالة أو فرنسا كانت قد تكتلت جميعا لمواجهة جيوش الإسلام وصدها عن الجنوب .
أقول: مهما قيل من مثل هذه التعليلات وغيرها، وبعيدا عن مدى صحة بعضها وواقعيتها, فإن معركة بلاط الشهداء كانت أعظم لقاء بين الإسلام والنصرانية، وبين الشرق والغرب، ففي سهول تور، وبواتييه فقد المسلمون سيطرتهم على أوروبا، وارتد تيار الفتح الإسلامي أمام الأمم الشمالية كما ارتد قبل ذلك بأعوام أمام أسوار القسطنطينية.
وأخفقت بذلك آخر محاولة بذلتها الخلافة لافتتاح أمم الغرب وإخضاع النصرانية لصولة الإسلام، ولم تتح للإسلام المتحد فرصة أخرى؛ لينفذ إلى قلب أوروبا في مثل كثرته وعزمه واعتزازه يوم مسيره إلى بلاط الشهداء، وبينما شغلت إسبانيا بمنازعاتها الداخلية, إذ قامت فيما وراء ألبرتات إمبراطورية فرنجية عظيمة موحدة تهدد الإسلام في الغرب، وتنازعه السيادة والنفوذ .
وعلى الرغم من هزيمة المسلمين في بلاط الشهداء بواتييه, فقد بقيت حامية عسكرية عربية في مدينة أربونة جنوب غربي فرنسا نحو عشرين سنة محتفظة بذلك البلد وبجانب كبير من سبتمانية، ولم ينسحب المسلمون من غالة (فرنسا) تماما إلا بعد قيام الدولة الأموية في الأندلس سنة 138هـ/ 756م، وقرار صقر قريش عبد الحمن الداخل بسحب قوات المسلمين من غالة, والاكتفاء بسلطان المسلمين على الأندلس.