وقعت في ربيع الآخر للسنة السادسة للهجرة ، وهي من أكبر الغزوات التأديبية التي قادها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ضد أعراب نجد بعد غزوة الأحزاب وبني قريظة وقبل غزوة خيبر ، وقد سميت بغزوة (ذي قَرد) لأن الماء الذي نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له (ذو قرد).
وتسمى كذلك ب (غزوة الغابة) ، إشارةً إلى موضعٍ قرب المدينة من ناحية الشام فيه شجر كثير ، وهو المكان الذي أغار فيه المشركون على إبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ترعى فيه .
لم تكد تمضي ليال قلائل على عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته لبني لحيان ، حتى إعتدى خيل من (غطفان) تحت قيادة "عيينة بن حصن الفزاري" في جماعة من أربعين فارس ، على إبل كانت ترعى لرسول الله (إبل ذوات لبن) واستاقوها ، و قتلوا "ابن أبي ذر" (كان يرعى الإبل) وآخر من غفار وسبوا امرأته.
ولما علم غلام للصحابي "عبد الرحمن بن عوف" بما جرى ، دخل المدينة ليلاً و صاح : (يا صباحاه) ، فأسمع أهل المدينة ، فكان لابد من القصاص منهم.
سلمة بن الأكوع:
كان أول من انتفض للحاق بالمعتدين ، رجل شجاع يقال له أسرع العرب ، وهو "سلمة بن الأكوع" ، وظل يصيح في المدينة : (يا خيل الله اركبي).
وظل بمفرده يطارد المغيرين ، وكان رضي الله عنه أسرع الناس عدواً ، حتى أدركهم على رجليه ، وجعل يرميهم بالنبل.
ظل سيدنا "سلمة بن الأكوع" رضي الله عنه يقاتل سرية مكونة من 40 فارساً وهو وحده.
كان يقاتلهم من وقت الشروق إلى وقت الغروب وهو يجري على قدميه (قرابة 12 ساعة) .
قاتلهم بالسيف والقوس والرمح والحجارة والحرب النفسية ، قاتلهم في رمال الصحراء المكشوفة ، وبين أشجار الغابات ، وفوق قمم الجبال والصخور ، وفي الطرق الضيقة الوعرة ، قاتلهم في برد الصباح ، ولهيب حر الظهيرة ، ووقت الغروب ، قاتلهم من خلفهم ومن شمالهم ومن يمينهم ، وأتتهم أسهمه من كل مكان لا يتوقعون.
كان يسبق الخيل التي سرعتها بقياس زماننا من 48 كم الى أكثر من 60 كم ، غنم منهم 30 رمحاً و30 بُرداً (نوع من الملابس) ، وأخذ من قتلاهم وجرحاهم الخيل وأسلاب الفارس والفرس ، وجعلهم يرمون كل شيء معهم حتى يتخففوا من اثقالهم ، حتى تزيد سرعتهم وهم على الخيل ، وظل "سلمة" يلاحق العدو قائلا: (أنا ابنُ الأكوعِ ... واليومَ يومُ الرُضَّعِ).
ثم عدا "سلمة بن الأكوع" خلفهم حتى وصلوا إلى شعب فيه ماء ، يقال له (ذا قرد) ليشربوا منه وهم عطاش ، فأجلاهم عن الماء ، فما ذاقوا منه قطرة ، ثم منعهم الطعام وقضاء الحاجة ومنعهم الراحة.
ومع ذلك فقد هزمهم سيدنا "سلمة" وهو وحده ، وأعاد منهم إبل النبي صلى الله عليه وسلم التي سرقوها ، وأعاد منهم إمرأة راعي الإبل ، وكانوا قد خطفوها معهم في الصباح.
كل ذلك وهو وحده ، إلى أن جاء رسول الله بالمدد من الصحابه ، فأخبره الأخير بما كان ، طالبًا منه أن يترك له فرصة استنقاذ باقي الرعي والإغارة على الرجال المشركين من غطفان وهم عطشى ، فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه في ضوء النار الذي يشوي به من الإبل ، وقال: «يا ابنَ الأكوعِ ، ملكتَ فأَسْجِحْ» (اعفُ وتكرم) [رواه البخاري: 4194]
أعاد "سلمة" منهم امرأة راعي الأبل "ابن ابي ذر" ، وركبت ناقة للنبي صلى الله عليه وسلم ليلًا ، وكانت قد نذرت: (لئن نُجَّت لتنحرنّها) ، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته بذلك ، فقال النبي: «بئسما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك أن تنحريها ، إنه لا نذر لأحد في معصية ولا لأحد فيما لا يملك»[رواه ابن ماجة: 1740].
سيدنا "سلمة" رضي الله عنه كان وحده كتيبة عمليات خاصة تقاتل بكل الأسلحة في مسارح عمليات مختلفة وأجواء مناخية مختلفة وعدو متعدد المهام وعدد يفوقه 40 ضعف ، إضافة إلى سرعة خيل العدو ... لك أن تتخيل جيش كامل مثل البطل العظيم "سلمة بن الأكوع".
فهل بعد هذا يمكن أن تتعجب أننا بمثل هذا البطل الخارق قد فتحنا بلاد فارس والروم والشام ومصر وأفريقيا والأندلس والهند والصين .
______________________________________________
المصدر :
- البداية والنهاية - ابن كثير.