رأَى "هرقل" أن ينقذ مصر من الخلاف الدينى ، فأمر بأن يمتنع الناس عن الكلام فى طبيعة السيد المسيح وصفتِه .. كما أنه وقع فيما وقع فيه "جستنيان" (527م - 565م) من إسناد الرئاسة الدينية والسياسية لشخصٍ واحد وهو "قيرس" الذى يُعرف عند مؤرخى العرب باسم (المقوقس) ..
وقد قاسى الأقباط جميع أنواع الشدائد من جراء إضطهاد "قيرس" الذى فاق كل اضطهاد ، حتى تحول كثير ممن لم يستطيعوا الهرب إلى المذهب الجديد ومنهم بعض الأساقفة.
وكان الروم أهل الدولة من جنود "هرقل" مسيحيين ، لكنهم يخالفون القبط فى العقيدة ، وكانت لهم السلطة على القبط وبلغ العداء بين الفريقين إلى حد منع الزواج فيما بينهم وقتل بعضهم ، وكان الروم يسيئون معاملة القبط حتى أضطر بطريركهم "بنيامين" للفرار ، فأنتقم الروم منه فى أخيه "مينا" وأُحرق بالنار ..!!
أضطر "قيرس" (المقوقس) للضغط على المصريين وخَيَّرهم بين أمرين : إما الدخول فى مذهب "هرقل" الجديد ، وإما الاضطهاد.
وفى عام 631م هرب "بنيامين" توقعاً لما سيحلّ به وبطائفته من الاضطهاد من جراء فرضِ المذهب الجديد ..
كان لهذا البطريرك مكانة محببة بين الأقباط فى مصر ، ولجأ "المقوقس" إلى البطش والتعذيب وقاسى الأقباط جميع أنواع الشدائد فيما سُمِى (الاضطهاد الأعظم) الذى أستمر عشر سنوات مما كان له أثر فى سهولة فتح المسلمين لمصر .
أما العرب المسلمين فقد أتوا لتحرير القبط من هذه الأغلال البيزنطية ، إذ كان موقفهم من أهل الكتاب موقفاً كريماً وسمحاً ، تأكدت فحواه من واقع العهد (العُمَرى) الذى كفل للأقباط حريتهم الدينية بشكل لم ينعموا به أبدا من قبل ، فلقد خرج البطريرك الشريد "بنيامين" من مخبئه فى الصحاري لمدة عشر سنوات ، واستقبله القائد "عمرو بن العاص" بإحترام شديد ، ثم أعاده لمنصبه فى الإسكندرية معززاً مكرماً ليرعى شئون كنيسته.
وقد شهد عصر "بنيامين" ومن تلاه من البطاركة فى ظل الفتح العربى نهضةً لم يسبق لها مثيل من شعورٍ دينى قومى وإنتعاش فى الفنون والآداب فى مناخ حر تماماً .. والحق أن المسلمين قد أبدوا تسامحاً كريماً مع جميع الطوائف المسيحية على مختلف إنتماءاتِها.
إستقبل أقباط مصر جيوش الإسلام إستقبال المنقذين لا إستقبال الغُزاة الفاتحين ، ومضى "عمرو بن العاص" فى زحفه مؤيَداً من الشعب القبطى الذى أرهقه الحكم البيزنطى .. فيما عدا فرض الجزية على المسيحيين لم يفرق "عمرو بن العاص" فى معاملته بين المسلمين والمسيحيين .
إن الفتح الإسلامي قد أقام ولأول مرة فى هذه المنطقة من العالم نظاماً يمارس فيه رجل من الشعب الحكم ، لا عن طريق الوراثة ولكن عن طريق الجدارة والكفاءة.
كان يمكن أن تُعمي فتوحات العرب الإسلامية الأولى أبصارهم فيقترفون من المظالم ما يقترفه الفاتحون عادةً ويسيئون معاملةَ المغلوبين ويكرهوهم على إعتناق دينِهم ونشره فى أنحاء العالم.
لكن الخلفاء السابقين كان عندهم من العبقرية ما ندر وجوده فى دعاة الديانات الأخرى ، أدركوا أن النظم والأديان ليست مما يُفرض قسراً ، فعاملوا الكثير من الشعوب ومن كل قُطر تم فتحه بلطف عظيم ، تاركين لهم قوانينهم ونُظمهم ومعتقداتهم غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة فى مقابل حمايتهم لهم وفرض الأمن بينهم .